تفسير قوله تعالى: وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم



 

 تفسير قوله تعالى وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم

 

{ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }  [الزخرف: 31].

 

رأي أهل الرواية والتفسير

اختلفت المرويات في شخص هذا العظيم، واتفقوا أنه إما رجل من قريش أو رجل من ثقيف، فنقل قتادة قول الوليد بن المغيرة أنه لو نزل القرآن على عروة بن مسعود الثقفي، وفي رواية أنه أشار إلى نفسه وإلى عروة، وعروة له اسم آخر هو عمرو بن عمير. وقد اتفق معه عبدالله بن عباس الذي لم يذكر اسم رجل قريش وسماه جبار قريش. وفي رواية أخرى ذكر اسم الرجلين وهما الوليد بن المغيرة من قريش وحبيب الثقفي من جهة أخرى. كما أن له رواية أخرى وهي أن الرجلين هما مسعود الثقفي والوليد بن المغيرة. ولابن عباس رواية أخرى فهو يزعم أن المختار بن أبي عبيد هو عظيم الطائف.

ولمجاهد بن جبر قول مختلف فهو يرى بأن العظيم هو عتبة بن ربيعة من قريش، وابن عبد ياليل من ثقيف. وفي لفظ عمير بن مسعود وفي لفظ أبو مسعود الثقفي. واتفق معه عامر الشعبي. ويزعم قتادة بن دعامة أن كل بيت من بيوت قريش زعموا أن هذا العظيم كان منهم. ولإسماعيل السدي قول آخر فهو يرى أنه الوليد من قريش وكنانة بن عبد عمرو عظيم أهل الطائف. ويرى مقاتل أن العظيمين هما الوليد وأبا مسعود الثقفي. كذلك كان يرى عبدالرحمن بن زيد أنه عروة بن مسعود الثقفي ([1])

 وبهذا يتضح أن تلك المعلومات ضالة، فهي لم تثبت على اسم واحد فهناك العديد من الأسماء القرشية والثقفية، مما يؤكد أن معظمها مزيفة، وإنما هي طبيعة أهل الأخبار بإضفاء روح حية لتلك النصوص، وتسمية كل الشخصيات التي وردت في القرآن مثل شخصية صاحب موسى الذي سموه الخضر.

بينما نلاحظ أن النص لم يحدد اسم الشخصين، وجعل العظمة نكرة، مما يعني أنهم لم يحددوا اسم الشخصين حتى أن ابن كثير قال: "والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان" ([2])  وهذا هو الصواب، وسيتبين لنا لماذا لم يحددوا اسماً لهذين العظيمين ذلك ببساطة لأن القريتين هما قريتا الفرس والروم وليس الطائف ومكة.

كما نلاحظ أن هؤلاء المفسرين لم يتنبهوا إلى أن هذا تقليل من شأن ومكانة الرسول، فإذا كان القوم يبحثون عن عظيم في قريش، فهذا يعني أن محمداً ليس عظيماً في قريش، ولا مكانة له عندهم. وقد تنبه إلى ذلك ابن عطية لكنه حل الإشكال بالزعم أن العظيم هنا بالسن والقدم فقال: "وإنما قصدوا إلى من عظم ذكره بالسن والقدم، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان حينئذ أعظم من هؤلاء، لكن لما عظم أولئك قبل مدة النبي صلى الله عليه وسلم وفي صباه استمر ذلك لهم" ([3])

والحقيقة أن الرسول كان عظيماً وكان غنياً وكان منفقاً وقد شرحنا ذلك في سورة الكوثر وسورة الضحى، فهو مساو لهؤلاء الكفار في الغنى فقد فتح الله له الخزائن، وإن كانت نفقاته عالية لكثرة صدقاته.

ثم أن تحديد القريتين بمكة والطائف فيه جهل بالفترة التاريخية في تلك الفترة، نعم كانت قريش قبيلة قوية جداً ومسيطرة لكن هناك من كان له قوة وسيطرة مثلها مثل قبائل نجد والغساسنة والمناذرة، وبعض ملوك اليمن ككندا، وأن ثقيف وإن كانت قبيلة قوية جداً فلم تكن بتلك القوة المؤثرة ولم تكن قبيلة توسعية كما كانت قريش وغيرها من القبائل.

فما المقصود بالقريتين؟

ببساطة القريتان هما عاصمتا الفرس والروم، فهما القوتان العظميان، في تلك الفترة، وهما مثل الروس والأمريكان في زمننا أو الصين، فالعالم يدور حول فلكهما، والناس أتباع لهما. ففي تصور هؤلاء المجادلين أنه كان الأفضل أن ينزل القرآن على أحد عظماء الفرس والروم، لكي ينتشر هذا الدين بسرعة وقوة تلك الدولتين.

وهذا الاعتراض تكرر عدة مرات، وهو اعتراض وجيه ومعقول، لولا أنهم لا يعلمون كفاية عن العلل الاجتماعية التي تصاحب عظمة الدول، وأنها تصبح معاقة وغير قادرة على تقبل الفكر الجديد، بعد أن حازت من القوة والقدرة بفضل فكر أثبت وجوده وتمكينه لهم.

لكن العرب وهم أمة لم يمكن لها بعد، فهم أسرع لتقبل هذا الفكر والحماس له أشد الحماس، وهم أمة خالية من فكر سابق قوي يواجه فكر القرآن، وهم أمة فطرية أخلاقية، فتعاليم القرآن تنسجم مع أخلاقهم الفطرية، من كرم وشيم وتضحية وبطولة، وصدق وشجاعة، فأسرعوا نحو الدين في عشر سنوات فقط، ونشروا الدين في بضع عقود، بل إن التوراة قد تحدثت عن هذه المعجزة وأن هناك رسول سوف يظهر وسوف ينتشر كلامه في كل بقاع الأرض في سنوات معدودة، بواسطة أتباعه المتحمسين.  

أنظر هذه النصوص المكرمة التي تؤكد على اعتراضات قريش:

الاعتراض على عربية القرآن

ﵟإِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٣ وَإِنَّهُۥ فِيٓ أُمِّ ٱلۡكِتَٰبِ لَدَيۡنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ٤ أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمٗا مُّسۡرِفِينَ ٥ وَكَمۡ أَرۡسَلۡنَا مِن نَّبِيّٖ فِي ٱلۡأَوَّلِينَﵞ [الزخرف: 3-6] 

واعترض القوم على عربية القرآن وهو مشابه لاعتراضهم على شخص النبي العربي، لأن الدين لن ينتشر وسيكون محدوداً بالعرب فقط، فلهذا طالبوا بأن يكون أعجمي أفضل من العربي، لانتشار الأعجمية وسيطرتها. وقد بين القرآن أنه لو نزل بالأعجمية لاعترضوا ولم يؤمنوا

ﵟإِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكۡرِ لَمَّا جَآءَهُمۡۖ وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٞ ٤١ لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ ٤٢ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدۡ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبۡلِكَۚ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةٖ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٖ ٤٣ وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا ‌أَعۡجَمِيّٗا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥٓۖ ‌ءَا۬عۡجَمِيّٞ وَعَرَبِيّٞۗ قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًىۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ ﵞ [فصلت: 41-44] 

وفي النص التالي يؤكد أنهم طالبوا مراراً أن ينزل القرآن على بعض العجم، أي من العظماء لأنه أكثر منطقية، فبين لهم القرآن أنه، حتى لو نزل على بعض الأعجمين فلن يؤمنوا

 

ﵟوَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٩٢ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ ١٩٥ وَإِنَّهُۥ لَفِي زُبُرِ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٩٦ أَوَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ ءَايَةً أَن يَعۡلَمَهُۥ عُلَمَٰٓؤُاْ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ١٩٧ وَلَوۡ نَزَّلۡنَٰهُ عَلَىٰ بَعۡضِ ‌ٱلۡأَعۡجَمِينَ ١٩٨ فَقَرَأَهُۥ عَلَيۡهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ مُؤۡمِنِينَ [الشعراء: 192-199] 

 

وأخيراً نقول أنظر النص كاملاً

ﵟوَقَالُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ عَلَىٰ ‌رَجُلٖ ‌مِّنَ ‌ٱلۡقَرۡيَتَيۡنِ ‌عَظِيمٍ ٣١ أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٣٢ وَلَوۡلَآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ لَّجَعَلۡنَا لِمَن يَكۡفُرُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ لِبُيُوتِهِمۡ سُقُفٗا مِّن فِضَّةٖ وَمَعَارِجَ عَلَيۡهَا يَظۡهَرُونَﵞ [الزخرف: 31-33] 

ليقول لهم إن الغنى ليس علامة حب واهتمام، وإنه إذا كان هناك أمم غنية وأخرى فقيرة، فليس لأن تلك الأمة خير من الأخرى، وليس لأن الله يحب تلك الأمة أكثر ويفضلها، بل لأن الأمر مجرد خدمة وسخرة وأن الرزق ليس هو الرحمة، بل الشريعة والكتب المقدسة هي الرحمة الحقة، وأنه لولا أن يحدث للناس فتنة وضلال لجعل للكفار غنى فاحش عظيم، فالرسالة تأتي للأمة التي تستحقها وليس للأمة التي تعيش بترف.

هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني

 

 

 

 



([1]) «موسوعة التفسير المأثور» (19/ 641)

([2]) «تفسير ابن كثير - ط العلمية» (7/ 207)

([3]) «تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» (5/ 53)

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -