تفسير قوله تعال قتال فيه كبير

 



تفسير قوله تعال قتال فيه كبير

{ يَسْءَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَٰعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْءَاخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }  [البقرة: 217].

هذا السؤال سأله يهود المدينة العرب الذين دخلوا في الدين الجديد ([1]) . وقبائل المدينة ذات الثقافة اليهودية، لم تعترف بحرمة الأشهر الحرم، فهذا نظام مندثر عندهم، ولكن قريش والحمس توارثوا هذا النظام عن إبراهيم وإسماعيل، وهم في أشد الحاجة الماسة إليه حتى تقوم تجارتهم في البلدان. فيسأل أهل المدينة من اليهود العرب الذين آمنوا هل يصح القتال في الشهر الحرام فكان الجواب.

وهؤلاء اليهود العرب الذين دخلوا الدين الجديد احتفظوا أيضاً بالإيمان بكتابهم التوراتي المقدس لهذا كان مطلع السورة يقول {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} ([2])  ولم يجدوا أي تحريم في كتابهم المقدس للأشهر المقدسة عند أهل مكة ومن يتابعها، لهذا طرحوا هذا السؤال.

قتال فيه كبير:

القتال في الأشهر الحرم من الكبائر. وتزعم المرويات أن عبد الله بن جحش، انطلق بسرية فلقي ابن الحضرمي أحد الكفار فقتله، وقد دخل وقت الشهر الحرام ([3]). وهذه القصة باطلة قولاً واحداً، فعبد الله بن جحش من أهل مكة ومن بني أسد القرشية، فهو يعلم جيداً حرمة الشهر وخطورة انتهاكه.

 كما أن النص الكريم يبين أنه كان سؤالاً واستفتاء، أي لم يحدث شيء بعد، فعرب المدينة اليهود الذين تحولوا إلى الإسلام، كانوا يجدونها فرصة للغزو في الشهر الحرام للانتقام من أفعال الكفار، إذ أن الناس في غفلة في هذه الأشهر الحرم، والانتقام من كفار قريش سهل، فكان الجواب أن انتهاك حرمة الشهر كبيرة.  

وصد عن سبيل الله:

والقتال في الشهر الحرام ليس في سبيل الله ([4])  كما تعتقدون، بل صد عن سبيل الله، ذلك لأنه سينفر العرب من الإسلام الذي انتهك حرمة الأشهر الحرم، بل سيجعل المنطقة فوضى وخراباً وهذا هو سبيل الشيطان وليس الله.

وتزعم الروايات أنه بعد أن حدث القتل صرخ كفار قريش فقالوا: «قد سفك محمدٌ الدمَ الحرامَ، وأخذ المال، وأسر الرجال، واستحل الشهر الحرام» ([5]) ولا نستبعد حدوث مثل هذا، ولكن ليس من قبل المسلمين، ولكن من قبل الصعاليك وقطاع الطرق، المستفيدون من هذه الفوضى التي حصلت في تلك الفترة، فهناك من كان لا يؤمن بالحمس وبحرمة الأشهر الحرم قبل ظهور الإسلام وأثناء البعثة والهجرة، وإلا فإن سفك الدماء أول من بدأت به قريش، فلا يعقل أن يزايدوا على المسلمين في ذلك.

وكفر به: 

أي هو جحود بسبيل الله ومحاولة تغطيته ومنعه، وبهذا تخالفون ما زعمتم أنكم أنصاره.

والمسجد الحرام:

أي القتال في الشهر الحرام هو صد عن المسجد الحرام، ذلك لأن الناس تسافر في هذا الشهر، لأنه يمتنع العرب عن القتال فتأمن الطرق فيذهبون للحج والعمرة بأمان، فانتهاك حرمة الشهر يضر بالمسجد الحرام.

 وإخراج أهله منه أكبر:

أي محاولة التحرش بأهل مكة لكي يخرجوا للقتال أكبر ذنباً من القتال في الشهر الحرام، حتى لو كانوا مشركين وكنتم مؤمنين، ذلك لأن المولى قد وعد إبراهيم بأن يجعل مكة آمنة، والله يفي بوعده، فمحاولة استفزاز أهل مكة هو انتهاك لأمنها.

لاحظ أن النص قال إخراج أهله منه، فالمحرم والكبيرة هو استفزاز أهل مكة وجعلهم يخرجون للقتال، لأن العدو على الأبواب، ولكن قتالهم إذا كانوا خارج مكة في غير الأشهر الحرم، فواجب لصد عدوانهم وكسر غرورهم ودفع شرورهم.

والفتنة أكبر من القتل:

أي ذنب الفتنة أكبر من ذنب القتل. والفتنة لم تكن من قبل المؤمنين، بل من قبل الكفار. فنعم قتالكم في الشهر الحرام كبيرة ونعم القتال عند المسجد الحرام أكبر، ولكن إجبار الناس على دين معين هو الأكبر، فما يفعلونه هو أعظم من القتال في الشهر الحرام ومن القتال عند المسجد الحرام، فالفتنة أعظم الذنوب.

وفي هذا تعويد لعقول هؤلاء السائلين من اليهود العرب على قبول الآخر، وعدم إجبار الآخرين على مذهب أو دين، وقد كانت تلك فتنة المدينة المنورة قبل هجرة الرسول، فهم لم يعتادوا على التعددية، ومشكلة الفتنة في الدين أهم من موضوع القتال في الشهر الحرام أو المسجد الحرام الذي اشغلوا عقولهم بها بينما رؤوسهم متشبعة بالفتنة الدينية.

هذا والله أعلم

علي موسى الزهراني

 

 



([1]) طرح المؤمنون اليهود العرب على الرسول عدة أسئلة من ضمنها هذا السؤال وهو أخطرها، كذلك سألوا عن المحيض وعن الظهار وغيرها من الأسئلة أنظر ما يلي هذه الآية من آيات فيها الاستفتاءات

([2]) [البقرة: 4].

([3]) «موسوعة التفسير المأثور» (3/ 692)

([4])  سبيل الله مصطلح قرآني يقصد به المشاركة في الحرب العسكرية سواء بالقتال المباشر أو دفع الأموال لتمويل الجيش، وهو قتال من أجل الله وطريقه النوراني أي لكي يستتب الأمن، فتنطلق الحريات لكي يؤمن الإنسان بما شاء، فهذا هو سبيل الله.

([5]) «موسوعة التفسير المأثور» (3/ 695)


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -